بسم الله الرحمن الرحيم
وثيقة
حق الضيف بأشيقر
أنموذجًا للسلوك المجتمعي المستدام في
الكرم
الكرم صفة أصيلة وخلق عريق في النفس الإنسانية السوية عرفته النفوس العظيمة منذ الأزل، وهو دليل الرفعة والعزة والشرف، وغاية المجد والعلو والسمو، يمثل جزءًا من منظومة القيم والأخلاق التي شاعت في المجتمع العربي القديم قبل الإسلام مرتبطةً بمعاني أخلاقية ومنافع دنيوية، فلما جاء الإسلام أكد على الكثير من هذه القيم الأخلاقية النبيلة التي تأصلت في الشخصية العربية واحتلت هذه القيم مكانة هامة في النظام الإسلامي، وكان الكرم بجميع صوره وأشكاله أحد أهم هذه القيم التي أكدها الإسلام وجعلها سمة بارزة من سمات المجتمع المسلم.
ومن أهم صور الكرم التي حث عليها الإسلام ورغب فيها وجعلها حقًا واجبًا على كل مسلم، ورتب علها الكثير من الأجور، وجعلها دليلاً على الإيمان الصادق والطاعة المطلقة لله سبحانه وتعالى: إكرام الضيف القائم على العطاء والايثار والثقة بموعود الله القائل في كتابه العزيز ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم﴾ آل عمران:92، والقائل ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ سبأ: 39. والذي حثَّ النبيُّ e أمَّتَه عليه، وبيَّن لهم أنَّ ذلك من تمام الإيمان بالله تعالى واليومِ الآخر، في قوله e: (مَن كان يُؤْمن بالله واليوم الآخر فلْيُكرم ضَيْفه)، وقوله eلما سأل: أي الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف).
وفي البيئات الصحراوية والفقيرة التي يكثر فيها تنقل الناس من حاضرو وبادية أما سعيًا في طلب الرزق، أو فراراً من الجدب وبحثاً عن موارد المياه والكلأ، أو فرارًا من الحروب والمنازعات، يدرك الانسان بإيمانه وشهامته قيمة إكرام الضيف، ودوره كعضو في المجتمع في التكاتف مع إخوانه المسلمين لإداء هذا الواجب.
قبل قيام الدولة السعودية الثالثة وتوحيد الجزيرة العربية كانت قرى الوشم تعاني من فراغ سياسي، واختلال أمني ترتب عليه انتشار الفقر وكثرة الحروب، وكانت أشيقر كغيرها من قرى وبلدان نجد في -ظل غياب الدولة المركزية- تمثل مجتمعا صغيرًا يعيش وفق أنظمة أمنية، واقتصادية، وتجارية، وزراعية، واجتماعية، تشكلت عبر الزمن وأصبحت عُرفًا اجتماعيًا يضبط حياة المجتمع وينظم معيشته، وبداخل هذا المجتمع مارس الناس حياتهم وفق ما تمليه ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية يكمل بعضهم حاجة بعضهم.
ونظرًا لموقع أشيقر الجغرافي الذي جعلها حلقة وصل بين إقليم الوشم وإقليم القصيم، وجعلها ملتقىً للمسافرين والرحالة والتجار، وتوافر سبل الحياة فيها من موارد مائية وغذائية، فكان يكثر توافد عابري السبيل إليها على مدار العام من فئات متنوعة تجار وفقراء، حاضرة وبادية، أفراد ومجموعات، يمكثون فيها أيامًا لقضاء حوائجهم وإراحة أجسامهم في ضيافة أهل البلد الذي استشعروا معنى الكرم وحق الضيف فنقلوه من سلوك فردي اجتهادي إلى سلوك مجتمعي منظم تنظيمًا دقيقًا قائما على اتفاق أدبي بين سكان البلدة الذين وضعوا نظامًا -قل أن تجد مثله في ما حولها من البلدان- للقيام بحق الضيوف الذين يردون إلى البلدة بين الفينة والأخرى، وتقوم فكرة هذا النظام على تحويل حق الضيوف من اجتهاد فردي غير منضبط إلى عمل جماعي مُنَظّم مستدام، فقاموا بحصر جميع بساتين مزارع البلدة، وحددوا مساحاتها، ومقدار انتاجها السنوي من التمور والحبوب ، وحددوا لكل بستان مقدارً معينًا من انتاج بستانه يتحمله من حق الضيف السنوي برضًا وقناعة من مُلّاك هذه البساتين يُسَلّم عند الجذاذ والحصاد لإدارة مسؤولة _من ذوي الأمانة والعدالة_ عن جمع هذه المساهمات وتخزينها في مستودعات مخصصة لذلك، وتتولى هذه المجموعة المسؤولة القيام بحق ضيوف البلدة الذين يقيمون عادةً في غرف أنشئت خصيصًا لاستضافتهم تسمى بدور الغرباء، وتختلف الحصة المقررة لكل بستان كما سبق بناء على مساحة البستان وحجم انتاجه فكانت النسب المقررة حسب ما ورد في الوثيقة المذكور في ديوان أوقاف الصوام بأشيقر تحسب بالضيف([1])، فيكون على هذا البستان ضيف أو أكثر، أو ثلاثة أرباع، أو نصف ضيف، أو ربع ضيف، أو سدس ضيف وهكذا، وكان أعلى نصيب مقيد أربعة أضياف ونصف، وأقل نصيب سدس الربع.
وقد ورد ذكر هذه الوثيقة في ديوان أوقاف الصوام بأشيقر ولم يحدد تاريخ كتابتها ولا من كتبها، كتبت في (12) اثنا عشر صفحة، وعدد أسطرها (155) مائة وخمسة وخمسون سطرًا، افتتحها كاتبها بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم إثبات وقف أهل أشيقر للضيف([2])، وصنفت البساتين على حسب الآبار التابعة لها كالتالي:
م | اسم البئر | إجمالي حق الضيف على البساتين التابعة له | عدد البساتين التابعة له |
المجاشعية (المجيشعية) | 47.74 ضيف | 40 بستان | |
المديبغة | 52.66 ضيف | 51 بستان | |
الزعيزعية | 20.66 ضيف | 25 بستان | |
الجفر | 76.81 ضيف | 81 بستان | |
الغطفا | 37.49 ضيف | 29 بستان | |
الغبية | 44.98 ضيف | 36 بستان | |
السديس | 38.75 ضيف | 27 بستان | |
البديعة | 29.25 ضيف([3]) | 26 بستان | |
الربيعية | 63.542 ضيف | 67 بستان | |
الإجمالي | 411.792 ضيف | 382 بستان |
واستمر العمل بهذا النظام عقودًا من الزمن ولم يتوقف إلّا بعد توحد المملكة العربية السعودية وحدوث تلك النقلة الحضارية التي ساهمت -بتوفيق الله- في تحقيق الأمن والأمان، ورفع مستوى معيشة السكان وتغيير أنماط حياتهم واستغنائهم عن المزارع القديمة التي أُهمِلت وأصحبت تراثًا من الماضي.
ومن المهم هنا الإشارة إلى ان توقف العمل بهذا النظام لا يعني بأي حال من الأحوال تخلي المجتمع عامة وأهل أشيقر خاصة عن قيمهم التي تشربوها من مفاهيم وقيم الإسلام، فالقيم والمفاهيم لا تتوقف ولا تفنى بل تَتَحدّث وتتطور مع تطور المجتمعات، وما زال الكرم بجميع أشكاله صفة ملازمة، وسلوك متأصل في شخصية أهل أشيقر رفع الله به ذكرهم، وسمت به منازلهم، شهد بذلك القاصي والداني ممن يسر الله لهم زيارة هذه البلدة والتعرف عليها.
كتبه
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم السماعيل
أشيقر
13/1/1442ه
[1] – للأسف لم نجد من يفسر لنا مقدار الكمية المقدرة التي يمثلها حق الضيف الواحد وهل هي تكال بالصاع أم بالوزن، وهل تختلف بين الحبوب التمور أم تتساوى.
[2] – سميت وقفًا وهي ليس كذلك، فهي صدقة من الصدقات ولا تأخذ أحكام الوقف.
[3] – ذكر كاتب الوثيقة أن إجمالي ما ذكر من المجاشعية إلى البديعة أربعمائة وثمانون، ويبدو أنه قد وهم في ذلك، أو أن هناك سقط في الوثيقة لم يسجل.
Pingback: وثيقة حق الضيف بأشيقر ” أنموذجًا للسلوك المجتمعي المستدام في الكرم ” – مجالس أشيقر