جيولوجيا مفهوم الوقف

بسم الله الرحمن الرحيم

جيولوجيا مفهوم الوقف ([1])

تعرف الجيولوجيا بأنها العلم الذي يدرس المواد المكونة لكوكب الأرض، وفي جيولوجيا مفهوم الوقف سنتحدث عن الطبقات التي يتكون منها مفهوم الوقف، فمن التحبيس إلى التسبيل ست طبقات متتالية شكلت الصورة النهائية لمفهوم الوقف، وفي كل طبقة من هذه الطبقات ستتكشف للمتأمل معادن ودلالات متنوعة ومتعددة الآفاق.

الطبقة الأولى: مؤسسة خيرية:

الوقف في أصله مؤسسة خيرية تهدف إلى تنمية المجتمع وتعزيز مبدأ التكافل الاجتماعي، ينتظم وفق لوائح وأنظمة مستقاة من صك الوقف، ومنه يستمد شرعيته وقانونيته وتنظيمه الإداري.

الطبقة الثانية: الصدقة الجارية:

ثالث ثلاثة أعمال لا تنقطع بالوفاة، وهي: كل عمل يقوم به الفرد طلبًا للأجر والمثوبة من الله، ولا ينقطع بموته بل ويستمر أجره بعد وفاة صاحبه، وهي تنمية متواصلة ينعكس فيها منهج الديمومة، مضمونة البقاء، تقوم على أساس، وتنشأ من أجل هدف محدد، وترمي إلى غاية منشودة.

والوقف أحد صور الصدقة الجارية، فهو خير متواصل وصدقة مستمرة، في ديمومة أجره يكمن سر بقاءه.

الطبقة الثالثة: المسؤولية الاجتماعية للفرد:

المسؤولية الاجتماعية هي قيمة اجتماعية ومنهج سلوك، تعكس علاقة معينة بين الفرد والمجتمع الذي ينتمي إليه ويتعايش معه زمنا وإن اختلف المكان، تعبر عن النضج النفسي للفرد، والتزامه الأخلاقي بالعمل لصالح هذا المجتمع.

ورغم أن الإنسان بطبيعته التي جبل عليها يميل إلى تفضيل رغباته ومصالحه الشخصية على مصالح الآخرين، إلّا أن الحياة في وسط أفراد آخرين في مختلف المجتمعات “تحول هذه الأنانية الجاهلة إلى أنانية عاقلة، أي أنانية تحقق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الآخرين أي أفراد المجتمع التي ينتمي إليها الفرد الواحد([2])”.

والوقف يحقق هذا الإطار المتوازن في شخصية الأفراد، ويعكس ماهية المسؤولية الاجتماعية التي تكون للأفراد داخل المجتمعات بقدرتهم الفائقة على مقاومة ما يحبون و”مواجهة أقسى شهوات النفس الإنسانية وأكثرها أنانية وآثره، وتحويل هذه النزعة إلى عكسها، حيث تتحول شهوة التملك والأخذ إلى رغبة صادقة في العطاء غير المحدود لمن لا تعرف النفس ولا ترتبط به بأية رابطة نسب أو دم أو علاقة اجتماعية، إنها قيمة العطاء غير المحدد وغير المحدود التي يتم تحقيقها من خلال التحكم في شهوة التملك.([3])” وبانتصار الأفراد على أنفسهم وكبحهم لشهواتهم الذاتية ذات البعد المصلحي الخاص بتنازلهم طواعية عن بعض أموالهم يكونون قد تحولوا إلى طاقة إيجابية داخل مجتمعاتهم.

الطبقة الرابعة: تكافل الأجيال:

وهو مصطلح يعبر عن فلسفة معينة للعلاقة بين أجيال تختلف في الزمان بغض النظر عن المكان. والجيل جمع أجيال، وهو الصنفُ من الناسِ، وقيل: الأمةُ والجنسُ، والقَبِيل([4])، وهو ثُلُث القرن الذي يتعايش فيه الناسُ([5]).

 أما عند المؤرِّخين، فمفهومُ الجيل يعبِّر عن: حالةٍ عمرية، ومسافةٍ زمنيةٍ تَفصِل بين جيل وآخر، وهذا هو المفهومُ البيولوجي للجيلِ، ويُمكِن الحديث عن الجيلِ من الزاويةِ الزمنيةِ الطويلة، التي تصل إلى ثلاثين عامًا، كجيلِ الآباء وجيلِ الأبناء.([6])

التكافل بين الأجيال، وهو صلب فلسفة الوقف التي تقوم على أساس نفع الأجيال الحاضرة وضمان مستقبل الأجيال القادمة، فلا يجور جيل حاضر على جيل قادم، هو شكل من أشكال التكافل التي حض عليها الإسلام، يمثل قيمة حضارية عظيمة تتلخص في أن خيرات الأرض حق مشترك لجميع الأجيال فلا يحق لجيل أن يستأثر بها دون الآخر (تكافل زماني).

سياسة التكافل بين الأجيال التي رسمها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرض السواد (الأرض الزراعية الخصبة في العراق) حينما فتحها المسلمون وأراد الجنود اقتسامها فرفض هذا الرأي وقال (إني أريد أمرًا يسع أولهم وآخرهم)، مستندًا في قراره إلى فهمه لقوله تعالى (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) سورة الحشر آية 10، ففهم من الآية أنها تعطي للأجيال القادمة حقًا في ثروات الأمة القائمة.

وحبس الأصل، وتقديم رعايته وصيانته على كل المصارف، والعمل على تنمية أصوله، شواهد حية على عدالة الوقف بين الأجيال، ومسؤولية كل جيل والتزامه الأخلاقي بتسليم راية الوقف للجيل اللاحق بما يحقق مفهوم التنمية المستدامة والمتواصلة.

الطبقة الخامسة: التفاعل الإيجابي مع الكون:

التفاعل الإيجابي مع الكون يمثل حقيقة الإسلام وقِيَمه التي تتجاوز الحدود البشرية لتصل الى الحيوانات والجمادات، وقد حرص الإسلام على توضيح علاقة الانسان بالكون وأن ما حوله من كائنات إنما هي أمم أمثاله يتعامل معها ومع جميع مكونات الكون تعامل مودة وحب لا تصادم وعراك واستعلاء، علاقة تجعل الكون ليس مجرد كواكب ونبات وماء بل مخلوقات ربانية مسخرة للإنسان، وبهذه الرؤية يُصبح الكون في وجدان المسلم صديقًا أنيسًا، يتجهان معًا بالخضوع والخشوع والطاعة لله الخالق.

هذا التفاعل الإيجابي يمثل تجليًا لحقيقة ذوبان الفرد في الكون والطبيعة بما تشتمل عليه من مخلوقات غير الانسان، ذوبان إيجابي يعكس سعيه الدائم للإصلاح والبعد عن الفساد في الأرض، وعمارة الأرض بقيم العدل والإحسان.

وبقراءة تاريخ الأوقاف نجد أن الأوقاف قد اتسعت دائرة مصارفها لتتجاوز الانسان وحاجاته ومتطلباته إلى الكون بكل أطيافه فجاءت الأوقاف المخصصة للحيوانات والطيور والبيئة وغيرها لتؤكد على سعة رحمة الإسلام وشمولها لكل المخلوقات بما يحقق التوازن الحياة.

الطبقة السادسة: اكتمال دائرة الخلق:

المـال في الإسلام مال الله وهو سبحانه المالك الحقيقي له، وملكية الناس للمال إنما هو مجرد ودائع وأمانات استخلفوا فيها لعمارة الأرض، وبرجوع المخلوقين للخالق تكتمل دائرة الخلق فيعود الرزق للرازق، وتنتهي فترة استخلاف المخلوق على المال.

وما في يد البشر من مال على اختلاف أنواعه وأشكاله ومقاديره وما ينتج عن هذا المال من أموال أخرى إنما هي جميعًا مال الله لا مالهم وملكه لا ملكهم أقامهم عليه واستخلفهم فيه، فما يملكون من هذا المال إلا حق الانتفاع به فقط، ومن صور هذا الانتفاع إنفاذ أمر الله في هذا المال بتأدية الحقوق التي افترضها عليهم بالعطاء والبذل والصدقات.

وفي الوقف تتمثل صورة العطاء -الطوعي- والتنازل لله تعالى عن ملكية المال الموقوف من أجل نفع الناس، والتماسًا لموعود الله بالخلف على من أنفق في الدنيا والآخرة، فتكتمل الدائرة بعودة المال إلى مالكه الحقيقي فتنتقل ملكية الأعيان الوقفية إلى حكم ملك الله تعالى وتنقطع عنها ملكية البشر.

كتبه: إبراهيم بن محمد السماعيل

23/6/1441ه

الموقع الإلكتروني: https://ebraheemalsmaeel.com/

حساب تويتر: @al_waqf


([1]) – اقتبست فكرة المقال وعنوانه من كتاب: الوقف واستدامة الفعل الحضاري، نصر محمد عارف، مجلة أوقاف، العدد 15، السنة 8، ذو القعدة 1429ه، ص 15.

([2]) – الفرد والجماعة الاجتماعية علاقة تفاعلية، مقال منشور على الرابط: https://www.feedo.net/Society/SocialInfluences/SocialPsychology/IndividualAndSocialGroups.htm

([3]) – عارف، نصر محمد (1429ه)، الوقف واستدامة الفعل الحضاري، مجلة أوقاف، العدد 15، السنة 8، ذو القعدة 1429ه، ص 21.

([4]) – لسان العرب لابن منظور. ط4دار صادر بيروت2005.

([5]) – المعجم الوسيط ج1، جماعة من المؤلفين، ط2

([6]) – عبداللطيف الحسين خروبة، مقال: صراع الأجيال وأثره على الأسرة والمجتمع المسلم، شبكة الألوكة.

اترك تعليقاً