وتحدثت الدموع

     رفع مدير الجمعية الخيرية رأسه لينظر إلى ذلك الرجل الذي دلف إلى مكتبه بكل هدوء ووقف ‏أمامه صامتاً مطرقاً رأسه في الأرض، وإذا به يرى رجلاً خمسينياً ذو وجه شاحب قد أنهكته ‏السنون، وأكلته الهموم، وأثقلته الديون، انعقد لسانه فلم يستطع البوح بما يعتمل في صدره من ‏الهم والحزن.‏

     ساد الصمت برهة من الزمن بين مدبر الجمعية وذلك الرجل الخمسيني الذي أُلجم لسانه عن ‏الكلام، واحتبس صوته داخل أحشائه رافضاً التعبير عن حاجته ليفوض الأمر إلى العيون ‏لتتحدث عن تلك المعاناة التي يحملها ذلك الرجل.‏

مضت دقائق والصمت هو سيد الموقف وعيون ذلك الرجل المهموم تزداد حمرة وارتعاشاً، ولصدره ‏أزيز كأزيز المرجل، لينقطع ذلك الصمت فتتحدث العيون عبر نهر متدفق من الدموع من عيني ‏ذلك الرجل لتهز القلوب وتكشف عن ذلك الحمل الكبير الذي نأى بحمله ذلك الرجل المسكين ‏عندما عجز عن الكلام في لحظة من أصعب اللحظات على الرجال، لقد عبرت تلك الدموع ‏الغزيرة من رجل خمسيني عن معاناة نطق بها لسانه بعد أن جفت دموعه من البكاء ليلقي بالدفعة ‏الأولى من همه الكبير على كاهل مدير الجمعية عندما شكا له من ثقل تلك الديون التي أصبحت ‏له هماً بالليل وذلاً بالنهار، ديون أثقلت كاهله وأذلت إنسانيته، وأهدرت كرامته، فأصبح طريداً ‏ملاحقاً ليصله الاستدعاء الثالث من مركز الشرطة، الاستدعاء الثالث والذي يعني بداية البعد ‏عن أبنائه وبناته وزوجه حيث أصبح السجن يترائي أمامه في كل لحظة.‏

    خرج مدير الجمعية مع هذا الرجل إلى منزله ليستكشف حاله فإذا به يعول عائلة تضم عددً كبيرا ‏من الأبناء الذكور وبعض البنات ، وإذا به يسكن في مكان يسمى تجاوزاً منزلاً ، تتناثر بين ‏أرجاءه بعض قطع الفرش البالية يتناوب عليها أبناءه في نومهم وجلوسهم، حظهم من النور ‏مصباح كهربائي واحد متصل بسلك كهربائي مدلى لهم من منزل أحد جيرانهم، وإذا بهم ‏يتناوبون أيضا على هذا المصباح كل على حسب حاجته من الغرفة إلى المطبخ إلى دورة المياه، ‏فالكهرباء قد فصلت عنهم من أمد بعيد وهي من أواخر ما يطمحون في الحصول عليه، وعند ‏سؤاله عن سبب وجود أبنائه وبناته في المنزل مع أنههم في يوم دراسي أفاد بأنه الفقر والدّين أعجزه ‏عن تأمين احتياجاتهم المدرسية، جال مدير الجمعية بنظره في أرجاء المنزل المتهالك وهو يتذكر ‏حالات كثيرة مشابهة لهذه الحالة تمر عليه بين الفينة والأخرى تحدث فيها الدموع بدل الكلمات، ‏حالات محزنة لأفرادٍ من أبناء جلدتنا يعيشون بين أظهرنا، نشبع وهم جياع، ونضحك وهم في ‏بكاء، ننام وهم يتقلبون بين الهموم والأحزان قد أضناها الجوع الشديد تَبيتُ‎ ‎وبطونُها طاوية، ‏وبيوتُها خاوية لا تجد فتات الخبز، فمن لهم بعد الله إلا من أنار الله قلبه بالإيمان ويسر له سبل ‏البذل والإنفاق واستشعر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : (ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره ‏جائع إلى جنبه‌‏‎( ‎، وقوله: (ما آمن بِي مَن باتَ‎ ‎شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به).‏

اترك تعليقاً