اشتراط المُوقِف إقامة المستفيد في بلد الوقف

للوقف في الإسلام مكانة وأهمية خاصة تمثلت في صور متنوعة سواء على مستوى العلماء أو العامة، وذلك للدور التنموي والتكافلي الذي يسهم به في خدمة المجتمع المسلم، إضافة إلى الأجر الجاري المترتب عليه، والذي حفّز أفراد المجتمع للتسابق والتنافس في إنشاء الأوقاف وتنويع مصارفها لتغطي غالب احتياجاته، ولتساهم في حمايته ورعايته واستقراره، وازدهاره وتطوره.

هذا التوسع الكبير في ميدان الأوقاف والذي انطلق منذ عصر الإسلام الأول وإلى يومنا هذا جعل الفقهاء يولون عناية واهتمام خاص بفقه الوقف وأحكامه ومسائله، ومن أبرز المسائل التي حظيت بعناية خاصة من قبل الفقهاء مسألة شروط الموقفين “لما لها من أثر كبير في بنية الوقف كتشريع فكان ضبط هذه الشروط وربطها بمقاصد الشريعة الإسلامية، يعني تكريسا لتأثيرها، واعترافا بدورها وأهميتها”([1]) حيث جعل الفقهاء لها أهمية خاصة من خلال وجوب العمل بها وفق قاعدة: أن شرط الموقف كشرط الناظر مالم يخالف حكم الشرع.

والمتتبع لشروط الموقفين ([2]) في وثائقهم الوقفية يجد تنوعًا في هذه الشروط حسب طبيعة أوقافهم والظروف المحيطة بها زمانًا ومكانًا، كما يمكن له رصد أثر هذه الشروط على ضبط مصارف الوقف وتوجيهها نحو مراد الموقف وتحقيق مصلحة المستفيدين، إضافة إلى ضمان ديمومة الوقف ونمائه.

وخلال تتبع ومطالعة عدد كبير من وثائق الأوقاف القديمة في بلدة أشيقر ومراجعة شروط الموقفين تم الوقوف على بعض الشروط النادر وجودها في وثائق الأوقاف القديمة والحديثة، ومن هذه الشروط تأكيد الموقفين على أن حق الاستفادة من الوقف مقتصر فقط على من سكن في بلد الوقف، وسقوط حق كل من غادر بلد الوقف إلّا أن يعود مستقرًا به.

ومن الوثائق التي ورد فيها هذا الشرط، وثيقة محمد بن بكر([3]) التي نص فيها على أن أعيان وقفه المذكورة في الوثيقة ‏”وقف على أولاده الذكر والأنثى فيه سواء في الأصل الاستحقاق وليس لأولاد البنات منه شيء والفرع يرث ‏مع أصله ومن راح من ذريته من ‏أشيقر فليس له في الوقف شيء حتى يرجع إلى وطنه التي الأوقاف فيها”‏، ووثيقة رجاسة ([4]) بنت ……. التي جاء فيها أن الوقف “محصور على من نزل أشيقر منهم لا يخرج عن من نزل أشيقر، ومن نزل منهم في غير أشيقر فلا شيء له من ‏الوقف ويختص ‏به النازل اشيقر خاصة دون غيره ومن بان عنها منهم خرج من الوقف ومن نزلها منهم دخل فيه ‏وقفًا عليهم”. ‏

هذا النص الوارد في الوثيقتين لا شك أنه مرتبط برغبة الموقف في بقاء الموقوف عليهم في بلدهم وعدم مغادرتها، وإن لم يفصح الموقفون عن سبب ذلك إلّا أنه يمكن التنبؤ بعدد من الأسباب يمكن أن تمثل إرادة الموقف مجتمعة أو متفرقة ومنها:

  1. رغبة الموقف في استمرار بقاء الأسرة في بلدها الذي تنتمي إليه، وعدم الهجرة منه.
  2. أن قرب المستفيدين من الوقف وسكنهم في بلد الوقف يعطي مزيدًا من الأمان للوقف من حيث الرعاية والمتابعة والتنمية.
  3. ضمان حد أدنى من الدخل لمن قاوم مغريات الهجرة إلى المدن وآثر البقاء في موطنه رغم ما قد يعانيه من قلة الدخل وتدني مستوى الخدمات، وقلة فرص العمل، او انعدام الأمن أو ضعفه‏.
  4. تضييق دائرة المستفيدين من الوقف فلو لم يشترط الموقف هذا الشرط لتضاعف عدد المستفيدين من الوقف إلى درجة ربما يتعطل معها الوقف لكثرة المستفيدين وقلة ما يستحقونه من الريع.
  5. تحفيز من خرج من بلدته إلى بلدان أخرى للرجوع والاستقرار ببلدته الأصلية، والاستفادة من الوقف.

وقد تضمنت وثيقة محمد بن بكر المنشورة أدناه فتوى للشيخ إبراهيم بن حمد بن عيسى ([5]) ‏رحمه الله بصحة هذا الشرط ووجوب العمل به.

نص الوثيقتين:

وقف محمد بن بكر في أشيقر.

 نص الوثيقة:

الحمد لله

وقف وسبل وحبس محمد بن بكر ما هو في ملكه وتحت تصرفه جميع أملاكه في أشيقر وهي ‏معروفات في مواضعها وهن على بير ‏(بياض في الأصل) ‏وما ‏على بير الطليحة ‏وما على بير السديس الجميع ‏معروف في أماكنه وقف على أولاده الذكر والأنثى فيه سواء في أصل الاستحقاق ‏وليس ‏لأولاد البنات منه شيء والفرع ‏يرث مع أصله ومن راح من ذريته من أشيقر فليس له في ‏الوقف شيء حتى يرجع إلى وطنه التي ‏الأوقاف فيها شهد على ذلك كله أحمد بن حسين ‏‏النجار وشهد بن عبد الله بن قضيب بن بكر وشهد به وأثبته وحكم بصحته أحمد ‏بن علي ‏بن زامل ونقله من خطه محمد بن عدوان وذلك سنة بقايا ‏القرن الثاني سنتين بعد الألف من ‏الهجرة ونقله من خطه إبراهيم بن ‏حمد بن عيسى وذلك في شهر شوال سنة 1262 ونقله من ‏خط الشيخ إبراهيم ابن ‏حمد بن عيسى بعد معرفته يقين حرفاً بحرف ‏لعارض شرعي وهو ‏خشية التلف إبراهيم بن صالح بن صالح بن عيسى وصلى الله على سيدنا محمد وآله ‏وصحبه ‏وسلم. ‏

بسم الله ‏

من عبد الله بن إبراهيم ومحمد بن عبد الكريم إلى الشيخ إبراهيم بن عيسى سلام عليكم ورحمة ‏الله وبركاته وبعد الواصل إليك عبدالله بن ‏محمد بورقة الموقف ‏محمد بن بكر تشرف عليها ‏منهم غايب وحاضر افتنا عفا الله عنك عن وضعها الغايب يطلبه والحاضر معيّي والمرجو ‏من ‏إحسانك إذا أشرفت عليها ‏تنقلها ان قرطاستها ردية والسلام. ‏

الحمد لله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد اعملوا على ما شرط الواقف فمن خرج من ‏أشقر فلا يستحق من الوقف المذكور شيء ‏إلا إن عاد إلى ‏وطنه وهذا شرط صحيح يجب ‏العمل به كذلك اعملوا على ما فيه من قبل المساوات والتفضيل وسلام ونقله من خط ‏شيخ ‏إبراهيم ابن حمد بن عيسى ‏بعد معرفته يقيناً حرفاً بحرف إبراهيم بن صالح بن عيسى وصل الله ‏على سيدنا محمد وآله وصحبه ‏وسلم

وقف رجاسة بنت …في أشيقر.

نص الوثيقة:

“وقفت رجاسة بنت (بياض في الأصل) جميع أرضها ونخلها ‏(بياض في الأصل) ‏في الحوطة المعروفة بالمسهرية من ‏(بياض في الأصل) ‏وجميع المغانم والمغارم والطرق والبير وجميع المرافق وقفًا برضاها وإتقانها ومعرفتها بما وقفت في موضعه كل من ينزل في وشيقر من آل أبي علي([6]) رفاقة ([7]) رجاسة ذكرهم وانثاهم فيه بالسوية محصور على من نزل أشيقر منهم لا يخرج عن من نزل أشيقر، ومن نزل منهم في غير أشيقر فلا شيء له من الوقف ويختص به النازل اشيقر خاصة دون غيره ومن بان عنها منهم خرج من الوقف ومن نزلها منهم دخل فيه وقفًا عليهمما تعاقبوا وتناسلوا على هذه الصفة لشرط الواقفة فصار وقفًا برضى الواقفة لازمة أحكامه، ثابتا على شرايطه، نافذا برضاها لأهله، لم يصرف عن أهله، ولم يغير عن أصله، ولا يصرف عن جهته([8])، من بدله أو حوله أو صرفه عن جهاته فقد باء بإثمه واستوجب غضب ربه والله طليبه وقوله مردود غير معمول به شرعا، وأجر الواقفة فيما قصدته من ذلك على الله سبحانه الذي لا يضيع أجر المحسنين ويجزي المتصدقين، شهد على ذلك أحمد بن محمد بن مشرف بن بريد، وعقيل بن إسماعيل ، وشهد القاضي محمد بن أحمد بن محمد بن بسام الحنبلي منصوب الشرع المطهر وكتب بيده وثبت ذلك عنده وصح شرعا وألزمه حكما، وكتب هذه الورقة من أصلها من غير زيادة ولا نقصان إبراهيم بن محمد بن أحمد بن إسماعيل، وكتب هذه الورقة أيضا من كتب إبراهيم ، محمد بن عبدالله بن إسماعيل ، ونقلها من خط محمد بعد معرفته يقينا بعد ما ضاع جملة من أولها وجعلت ما ضاع منها بياضا إبراهيم بن صالح بن عيسى وصلى الله على سيدنا محمد وأله وصحبه وسلم.

كتبه

إبراهيم بن محمد بن إبراهيم السماعيل

20/7/1443ه

أشيقر


‏(1) الملق، خيرية، وسمر الشرقاوي (2012)، شروط الواقفين دراسة مقارنة، مجلة مركز البحوث والدراسات ‏الإسلامية، جامعة القاهرة – كلية دار العلوم – مركز البحوث والدراسات الإسلامية،ع 36، ص 704.‏

‏(2) المقصود “بشروط الموقفين هي ما يقيد به الموقفون التصرف في أوقافهم من حيث إبقاؤها واستبدالها، وحفظها ‏والإنفاق عليها، وجهات صرف غلاتها وريعها، وكيفية توزيع استحقاقات المستحقين لها، والولاية عليها وإدارة ‏شؤونها، وكل ما يتعلق بها”.‏ ينظر: شروط الواقفين منزلتها وبعض أحكامها – المجلد 1 – الصفحة 196 – جامع الكتب الإسلامية.

‏(3) وهو محمد بن بكر بن عتيق بن حبر بن نبهان بن سرور بن زهري بن جراح الثوري السبيعي العامري، جد أسرة آل إسماعيل بأُشَيْقِر، يعتقد حسب الوثائق المتوفرة لدى الأسرة أن أول من استوطن أشيقر من ذرية زهري بن جراح قادمًا من عنيزة ‏وذلك في أواخر القرن الثامن الهجري (780-800ه)، وتملك الكثير من الأملاك (مزارع) مما يدل على أنه ذا ثروة كبيرة حال قدومه، ‏وقد أوقف جميع أملاكه في أشيقر “أرض الصفارية وأرض حويط الكراث وأرض الطويلع وأرض الجوف وأرض ابن بكر وأرض ‏الشويرخيه، في وثيقة تعتبر من أقدم والوثائق الوقفية بأشيقر كتبت والله أعلم في أول القرن التاسع الهجري. ينظر: السماعيل، إبراهيم بن محمد (1442ه)، وثائق آل إسماعيل بأشيقر، الجزء الثاني، ص 45.

‏(4) أصل هذه الوثيقة منشور ضمن وثائق آل شنيبر.  ‏

‏(5) وهو الشيخ إبراهيم بن حمد بن محمد بن حمد بن عبدالله بن عيسى، ولد سنة 1200هـ في شقراء، طلب العلم ‏على علماء بلده منهم الشيخ عبدالعزيز الحصيّن، والشيخ عبدالله أبابطين، ثم رحل للرياض لطلب العلم فأخذ ‏عن الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب، قال عنه الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى: ‏وكتب كثيراً من الكتب الجليلة بخطه المتوسط في الحسن، الفائق في الضبط، وحصّل كتباً كثيرة نفيسة في كل ‏فن، وعلى كل كتاب منها خطه بتهميش وتصحيح وإلحاق وفوائد وتنبيهات، فأجاب على مسائل عديدة في ‏الفقه بجوابات سديدة بديعة، منها كتابات على شرح المنتهى، وقد نقل عنها الشيخ عبدالله العنقري في حاشية ‏شرح الزاد في السّلم، أخذ عنه العلم جماعة من العلماء أشهرهم ابنه الشيخ أحمد ، وقد ولاه الإمام فيصل ‏القضاء في بلدة شقراء وعلى جميع بلدان الوشم ، ومازال في القضاء حتى توفي آخر ليلة عرفة سنة 1281هـ في ‏شقراء، رحمه الله. ‏

([6]( آل أبو علي في الوقت الحاضر في أشيقر هما أسرتي آل المنيعي وآل شنيبر وهم من آل مناع من العناقر من بني سعد بن زيد مناة بن تميم. ينظر: البسيمي، عبدالله بن بسام (1421ه)، العلماء والكتاب في أشيقر ‏خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، إصدار ‏جمعية أشيقر الخيرية، ص 147.‏  ‏‏

([7]( رفاقة: أي أقارب، ينظر: القاضي، عبدالعزيز بن حمد بن إبراهيم (1443ه)، كتاب: أسرة القاضي في أشيقر وسدير، الطبعة الأولى، ص 114.   ‏

([8](تأكيد المعنى بسبع جمل مترادفة أمر لافت للنظر، داعٍ للتأمل، والتكرار والإلحاح في التأكيد إنما هو من إملاء المُوقفة بلا ‏شك، ينظر: القاضي، عبدالعزيز بن حمد بن إبراهيم (1443ه)، كتاب: أسرة القاضي في أشيقر وسدير، الطبعة الأولى، ص 116.   ‏

اترك تعليقاً