بعد أكثر من عشرين عاماً تنفس الصعداء وخرج من التعليم ليتدارك بقية عمره الذي استهلك بشكل لم يتوقعه خلال هذه المدة، وفي إحدى جولاته الصباحية الحرة شاهد مجموعة من المعلمين عند بوابة أحدى المدارس فاسترجع شريط ذكرياته كمعلم عندما دخل التعليم شاباً متحمساً ليشارك في أعظم رسالة بطموح ينحت الصخر وهمة ترتقي نحو القمم، ليجد نفسه بعد هذه المدة وقد تبددت أحلامه وطموحاته مهنئاً نفسه على الحرية ومشفقاً على زملاءه، تذكر محاولاته التميز وتطوير ذاته والرقي بأدائه والتي اصطدمت بواقع بئيس حال بينه وبينها، كيف له أن بتميز وأن يتطور في ظل ظروف تعليمية متردية ومتدنية تخفض ولا ترفع وتأخذ ولا تعطي، كيف له أن يتميز ليصبح معلماً مثاليا في ظل جدول مزدحم بحصص متلاحقة الواحدة تلو الأخرى، تملا الفراغات بينها حصص ما يسمى بالانتظار، أو بمشرف تربوي له بالمرصاد يختار أوقات راحة المعلمين لعقد اجتماعاته الروتينية معهم، تلك الاجتماعات التي لا طعم لها ولا رائحة، فإن نجى من المشرف تربوي فإن مدير المدرسة له بالمرصاد فإما مناوبة وإما نشاط وإما اجتماع، فإن سلم من ذلك كله فركام كراسات الواجب بانتظاره في غرفة المعلمين، تذكر أيضا ذلك الصوت البغيض إلى نفسه المسمى بالجرس والذي يعلن لكل مدرس جولة جديدة من الهم والغم والضغط النفسي، تذكر تلك الفصول المزدحمة بعشرات المراهقين ممن كتب عليه مواجهتهم يومياً يُسكت هذا فيتكلم الآخر، خمس وأربعون دقيقة يعيش فيها المعلم تحت ضغوط نفسية شديدة ما بين شرح لدرس وإسكاتٍ لمشاغب وإيقاظ لنائم وتنبيه لغافل لينتهي الدرس فيبدأ مشوارٍ آخر مع مجموعة أخرى من المراهقين، أربع وعشرون حصة أسبوعية، تزيد إلى أكثر من ست وعشرين حصة أسبوعيا بإضافة ما يسمى حصص الانتظار، ودفتر تحضير يُلزم بإعداده يوميا حتى أصبح كابوساً يلاحقه في نومه ويقظته، تذكر في تلك اللحظة عشرون عاماً مضت عُرّف ما عليه من واجبات ولم يَعرِف ماله من حقوق تعلم خلال هذه المدة أن يلتزم بتوقيع الحضور والانصراف في وقته المحدد، وأن يذهب إلى الدرس فور سماع صوت الجرس، وأن يلتزم يومياً بإعداد دفتر التحضير وتسليمه للمدير في الوقت المحدد ليبصم عليه تلك العبارة العقيمة “نظر مع الشكر”، تعلم كذلك أن من واجبه كمعلم أن يحترم الطلاب جميعاً، وأن يلتزم في التعامل معهم بالضوابط التي حددتها تعاميم الإدارة التعليمة والتي ملئت بالتهديد والوعيد والثبور لكل معلم تسول له نفسه أن يكون إنساناً داخل المدرسة فيدافع عن كرامته أمام طالب مراهق قد يسئ إليه ويجرح كرامته، تذكر تلك الإجازة الإجبارية التي لا يحق له أن يستمتع بها إلا في الوقت المحدد وتلك الإجازة الاضطرارية التي كانت متنفساً له عندما تضيق به السبل وكيف أُعتدي عليها وحُرم من حقه فيها عندما صدر قرار بتقليصها إلى خمسة أيام وضم الخمسة الأخرى إلى الإجازة الرسمية فكان لبقية الموظفين في الأجهزة الحكومية غنمها وعليه كمعلم غرمها، تذكر في تلك اللحظة عشرون عاماً مضت حلم خلالها بشهادة شكر تشعره بأنه صاحب رسالة أو بدورة تدريبية ترفع من مستوى أدائه فلم يظفر بشئ منها، خلال عشرون عاماً كانت له أحلام انتظر تحققها فكانت كسراب بقيعة حلم بمدنٍ طبية ونوادي رياضية وحوافز تشجيعية، ودورات تأهيلية، عاش مجهول الهوية بلا بطاقة تعريفية تسهم في تيسير حياته و تذليل بعض الصعاب التي تعترضه فلما جاءت تلك البطاقة أصبح مسخرة للناس عامة والطلاب خاصة فهو جدير بالمساعدة، صودر حقه في الاختيار و التفكير والإبداع و التعبير والأمن والتطوير و التنقل والاختيار، تذكر ذلك الكادر التعليمي الذي لا يميز بين المعلم المتميز والمعلم الضعيف، وخاصة عندما عاش معلماً بلا روح يوم أن بلغ أشده فتم تجميد راتبه في نهاية السلم التعليمي، عشرون عاماً لم يسمع إلا التهديد والوعيد والتخويف عبر منظومة من التعاميم المهدرة لكرامة المعلم كإنسان أولا وكمربي ثانيا، كان يعتقد خلال هذه المدة أن من حقه كمعلم أن يؤهل تأهيلاً يمكِّنه من أداء رسالته التربوية باقتدار عن طريق التدريب المستمر والمساهمة في تطوير المناهج، واطلاعه على كل جديد في مجال التربية والتعليم, وتدريبه على استخدام الطرق الحديثة والتقنيات التربوية الميسِّرة لعملية التعليم ورعاية كمعلم متميز والعمل على تنمية مواهبه وتوثيق إنجازاته ونشاطاته المتميزة ومعالجة مشاكله بأسلوب تربوي بعيداً عن التسلط والتشهير، كان يعتقد أن من حقه أن يعطى المكانة التي يستحقها في السلم التعليمي، وأن يشعر بالأمن والرضى الوظيفي الذي يمكنه من أداء رسالته، وأن تقدم له الحوافز والمكافآت المادية التي تنمي لديه دافعية العمل وحبه للمهنة والانتماء لها ، وأن تتغير النظرة النمطية له في أذهان المجتمع من خلال إبراز الصورة المشرقة له ودوره في بناء الأجيال وزيادة وعي أولياء الأمور والطلاب بأهمية احترامه وتقديره ، انتبه صاحبنا من غفلته وعاد إلى رشده مرددا :
شوقي يقول وما درى بمصيبـتي ………. «قم للمعلم وفّه التبـــجيلا»
اقعد فديتك هل يكـون مبجــلا ………. مَن كان للنشء الجديد خليلا؟؟
ويكاد “يقلقني” الأميرُ بقولـــه ………. كاد المعلمُ أن يكون رســولا لو جرَّب التـعليمَ شوقي ساعـةً ………. لقضى الحـياة كآبةً وعويـلا